فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُؤَاكِلُ الرَّجُلَ بِصَنْعَتِهِ، يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالثَّمَرِ وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ: إذَا مَلَكَ الْمِفْتَاحَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْعَمَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ.
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يُضَيِّفُ أَحَدًا وَلَا يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ تَأَثُّمًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} مِمَّا عِنْدَك يَا ابْنَ آدَمَ، أَوْ صَدِيقِكُمْ، وَلَوْ دَخَلْت عَلَى صَدِيقٍ فَأَكَلْت مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْإِذْنِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِالْكِسْرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مِثْلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ يَدْعُوَانِ إلَى طَعَامِهِمَا وَيَتَصَدَّقَانِ بِالْيَسِيرِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بِأَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ الرصافي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الرصافي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مَالَهُ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِإِخْوَانٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَدُخُولِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَا يَكُونُ مَالُهُ مُحَرَّزًا مِنْهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ مِنْ صَدِيقِهِ؛ لِأَنَّ فَفِي الْآيَةِ إبَاحَةَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَرَادَ سَرِقَةَ مَالِهِ لَا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ ذُكِرَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} فِي سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}.
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كِنَانَةَ بَنِي خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ، وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَسُوقُ الذَّوْدَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}.
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَحْشِيٍّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ، قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ». قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} الْمَعْنَى: يَأْكُلُ مَعَ الْفَقِيرِ فِي بَيْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا إلَّا مَعَهُ.
وَقِيلَ: إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَخَافُ إنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ أَكْلُهُ عَلَى أَكْلِ صَاحِبِهِ، فَامْتَنَعُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَأْوِيلٌ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فَأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَخْلِطُوا طَعَامَ الْيَتِيمِ بِطَعَامِهِمْ فَيَأْكُلُوهُ جَمِيعًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} فَكَانَ الْوَرِقُ لَهُمْ جَمِيعًا وَالطَّعَامُ بَيْنَهُمْ فاستجازوا أَكْلَهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا طَعَامًا بَيْنَهُمْ وَهِيَ الْمُنَاهَدَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ فِي الْأَسْفَارِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً} رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْمَسْجِدُ إذَا دَخَلْته فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إذَا دَخَلْت بَيْتَك فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِك فَهُمْ أَحَقُّ مَنْ سَلَّمْت عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلْت بَيْتًا لَا أَحَدَ فِيهِ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِسَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
وقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} يَعْنِي أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَهِيَ مُبَارَكَةٌ طَيِّبَةٌ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قَدْ أُرِيدَ بِهِ السَّلَامُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ، وَيَقُولُونَ: الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَهَالِيِهِمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عِنْدَ الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، فَكَانُوا يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ.
الْخَامِسُ: مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا.
السَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى، وَمُعَامَلَتِهِمْ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ.
الثَّامِنُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}: نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ.
وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ.
وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ: مِنْ الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ.
الثَّانِي: مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك».
وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا.
فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ مِنْ مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}: فِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الْآبَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِهِ.
أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، لَكِنْ قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، مِنْ أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ.
وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ، وَمَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَأَرْكَانِهَا، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.